ربما العديد من المتداولين والمستثمرين يتساؤلون عن الصعود المتوازي للذهب والدولار الأمريكي في آن واحد خلال الفترة الحالية، على الرغم من أن بديهيات التداول تقول أن العلاقة ما بين الذهب والدولار الأمريكي غالباً ما تكون عكسية.
ربما العديد من المتداولين والمستثمرين يتساؤلون عن الصعود المتوازي للذهب والدولار الأمريكي في آن واحد خلال الفترة الحالية، على الرغم من أن بديهيات التداول تقول أن العلاقة ما بين الذهب والدولار الأمريكي غالباً ما تكون عكسية.
مع إلقاء نظرة على الرسم البياني للذهب، سنجد أن الذهب يتداول عند مستوى 1,861.00 حالياً وهو مستوى لم يشهده الذهب منذ منتصف يونيو من العام الحالي. أما بالنسبة لمؤشر الدولار الأمريكي DXY فهو يتداول الآن بالقرب من مستوى 96.00 نقطة وهو مستوى لم يشهده الدولار منذ منتصف يوليو من عام 2020.
لا شك في أن المتداولين والمستثمرين في أسواق المال والأسهم العالمية يعلمون أن الذهب يعد ملاذ آمن للمستثمرين في أوقات الأزمات سواء كانت سياسية أو أقتصادية أو صحية أو بيئية. والإجابة على هذا السؤال هو أننا منذ نحو خمسة سنوات تقريباً والعالم يشهد بعض الأزمات الغير تقليدية المتتالية بمختلف أنواعها والتي أدت في وقت ما لبلوغ الذهب مستويات قياسية لم يلامسها من قبل.
بداية هذه الأزمات كانت مع مجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو الرئيس الذي شن حرباً تجارية ضد الصين. هذه الحرب التجارية كانت بين طرفين يمثلان أكبر اقتصادين في العالم. الطرف الأول هو الولايات المتحدة التي يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لها نحو 22.9 تريليون دولار أمريكي وهو يمثل نحو 24.2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي الذي بلغ نحو 92 تريليون دولار تقريباً. الطرف الثاني هو الصين والتي تمثل ثاني أكبر اقتصاد عالمي، حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لها نحو 19.8 تريليون دولار أمريكي وهو ما يمثل نحو 17.8% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
الحرب التجارية ما بين الولايات المتحدة والصين أدت إلى تدفق السيولة النقدية لدى المشاركين في الأسواق نحو الذهب كسلعة ملاذ آمن مع تبادل طرفي الحرب فرض الرسوم والتعريفات الجمركية على المنتجات والبضائع بينهما.
أما الأزمة الثانية والتي يعيشها العالم حتى وقتنا هذا هي جائحة كورونا والتي بدأت منذ فبراير من عام 2020 وهي مستمرة حتى الآن. الأزمة بدأت في الصين ثم انتشرت حول العالم بشكل كبير خارج عن السيطرة، وهو ما أدى إلى هبوط شديد وحاد في أسواق الأسهم العالمية وفي المقابل اتجاه المستثمرين نحو الذهب كملاذ آمن. هذه الأزمة أدت إلى بلوغ الذهب أعلى مستوى له على الإطلاق خلال شهر أغسطس 2020 عندما لامس الذهب مستوى 2,074.70.
الأزمة الثالثة وهي أزمة مبنية على الأزمة الثانية وهي أزمة ارتفاع أسعار مصادر الطاقة العالمية من النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم. وتعود أسباب ارتفاع أسعار الطاقة العالمية إلى بدء تعافي الطلب العالمي على النفط الخام مع رفع العديد من الدول والحكومات للتدابير الإجتماعية والإحترازية، والتي كانت مفروضة من أجل السيطرة على انتشار وباء. وبالتالي فقد أصبح لدينا المعادلة الشهيرة التي تقول أن زيادة الطلب في مقابل شح المعروض يساوي زيادة في الأسعار. وبالفعل تشهد أسعار العقود الآجلة لخام برنت Crude Brent حالياً نحو 82.14 دولار للبرميل، بينما تتداول العقود الآجلة لخام غرب تكساس الأمريكي Crude WTI عند مستوى 79.93 دولار للبرميل، في حين تتداول العقود الآجلة للغاز الطبيعي Natural Gas حالياً عند مستوى 4.89 دولار للمليون وحدة حرارية.
العديد من العوامل تداخلت مع بعضها البعض تباعاً وأدت إلى ما نحن نراه حالياً من غلاء في الأسعار حول العالم وهو أمر ناتج عن ارتفاع معدلات التضخم. أبرز هذه العوامل هي ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة تعافي الطلب العالمي على الطاقة في مقابل شح في المعروض، ومن المعروف بديهياً أن زيادة الطلب على سلعة أو خدمة تؤدي إلى ارتفاع سعرها وخصوصاً في حال شح هذه السلعة أو الخدمة في السوق.
بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة يمكننا ذكر عامل آخر وهو اختلال سلاسل التوريد والإمداد نتيجة جائحة كورونا وهو أثر سلبي من آثار جائحة كورونا أدى إلى نقص المواد والسلع الأولية وهو ما أثر أيضاً على دورة الإنتاج للعديد من المصانع والمشاريع. وكان أبرز شواهد اختلال سلاسل التوريد والإمداد هو نقص الرقائق الإلكترونية والذي أدى إلى التأثير على القدرة الإنتاجية للعديد من الصناعات.
ارتفاع أسعار المواد والسلع الأولية والأساسية كان أيضاً أحدى العوامل التي ساعدت في ارتفاع معدلات التضخم عالمياً، نتيجة قلة المعروض وزيادة الطلب وهو ما يؤدي إلى ارتفاع سعر المنتج النهائي للسلعة أو الخدمة.
جميع ما سبق ذكره من أزمات إقتصادية تدفع المستثمرين والمتداولين إلى التحوط في الذهب كملاذ آمن نتيجة مخاوف التأثير السلبي لارتفاع معدلات التضخم في التأثير على تقويض نمو الناتج الإقتصادي العالمي والذي قد ينتج عنه ركود في النشاط الإقتصادي.
هناك عدة عوامل تدفع الدولار الأمريكي للصعود أيضاً في ذات الوقت الذي يشهد فيه الذهب ارتفاعاً أيضاً. من بين هذه العوامل:
لقد شهد الإقتصاد الأمريكي تعافياً منذ منتصف العام الحالي 2021 مع بدء انتشار حملات التطعيم ضد فيروس كورونا (كوفيد – 19) وتوسعها وهو ما أدى إلى تخفيض معدلات انتشار الفيروس وبالتالي بدأت الولايات المتحدة في رفع القيود الإحترازية تدريجياً لتعود الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى. ومنذ منتصف العام الحالي يشهد الإقتصاد الأمريكي تحسن تدريجي في عدة مناحي، مما جعل صانعوا السياسة النقدية في البنك الفيدرالي الأمريكي FED في التفكير في تشديد السياسة النقدية.
من أبرز الأسباب التي يسعى البنك الفيدرالي الأمريكي للنظر إليها هو تحسن سوق العمل في الولايات المتحدة ومعدلات البطالة أيضاً. حالياً يشهد سوق العمل في الولايات المتحدة تحسناً مطرداً حيث أضاف تقرير التوظيف في القطاع الخاص غير الزراعي NFP نحو 531 ألف وظيفة خلال شهر أكتوبر الماضي وهو عدد أكبر من توقعات السوق التي كانت عند 450 ألف وظيفة. كما شهد معدل البطالة انخفاضاً أيضاً في شهر أكتوبر الماضي إلى مستوى 4.6%، في حين كان معدل البطالة في شهر سبتمبر السابق له نحو 4.8%.
بالإضافة إلى ذلك، سجلت معدلات الشكاوى من البطالة في الولايات المتحدة أدنى مستوى لها منذ بداية جائحة كورونا الأسبوع الماضي بنحو 267 ألف طلب وهي مستويات مقاربة لتلك التي كانت قبل الجائحة.
لقد شهدت أسعار المستهلك الأساسي والعادي في الولايات المتحدة ارتفاعاً خلال شهر أكتوبر الماضي، حيث سجل مؤشر أسعار المستهلك الأساسي Core CPI (باستثناء الغذاء والطاقة) نحو 0.6% على أساس شهري. كما سجل مؤشر أسعار المستهلك الأساسي Core CPI (باستثناء الغذاء والطاقة) 4.6%. أما شهرياً فقد جاءت قراءة مؤشر أسعار المستهلك CPI نحو 0.9% على أساس شهري، في حين جاءت قراءة مؤشر أسعار المستهلك CPI على أساس سنوي عند 6.2%.
جميع ما سبق ذكره من عوامل تشير إلى التحسن والتعافي في الإقتصاد الأمريكي أدى بصانعي السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية كبنك فيدرالي وحكومة إلى البدء في تقليص برنامج مشتريات الأصول الخاص بجائحة كورونا والتفكير في رفع أسعار الفائدة من أجل السيطرة على ارتفاع معدلات التضخم وهو ما أدى إلى ارتفاع الدولار الأمريكي منذ يونيو الماضي 2021 وحتى الآن.
محرر وكاتب ومؤلف مالي واقتصادي مع خبرة تمتد لأكثر من 12 عاماً في مجال تداول أسواق المال والأسهم العربية والعالمية.